النشرات

الأثر القانوني للجائحة على التعاقدات

الأثر-القانوني-للجائحة-على-التعاقدات

 

مقدمة:

تم اكتشاف فايروس كورونا COVID-19 (“الفايروس“) في مدينة ووهان بمقاطعة هوبي الصينية في شهر ديسمبر 2019م والتي انتشر منها إلى جميع دول العالم عن طريق العدوى، وفايروس كورونا COVID-19 هو فايروس ينتقل بين البشر من الشخص المصاب بالعدوى إلى شخص آخر عن طريق المخالطة ويسبب للمريض أعراض عدة منها الالتهاب الرئوي، وقد يتسبب في مضاعفات حادة لدى الأشخاص ذوي الجهاز المناعي الضعيف، والمسنين والأشخاص المصابين بأمراض مزمنة (“الجائحة“).

وحيث ان الجائحة قد انتشر في عدد من الدول الأمر الذي أدى بمنظمة الصحة العالمية إلى اعتباره جائحة عالمية، فقد أوصت الدول بعدد من التوصيات للحد من انتشار هذا المرض ومنها الحد من السفر الدولي واغلاق الحدود وتطبيق التباعد الاجتماعي وغيرها من التوصيات التي بتطبيقها تسببت بشكل مباشر أو غير مباشر في تعطيل الحركة الاقتصادية المحلية والدولية وتسببت بأضرار بعدد من القطاعات الاقتصادية الحيوية.

وفي إطار مسؤولية المملكة العربية السعودية بشأن سلامة مواطنيها والمقيمين على أراضيها بهدف القضاء على المرض قامت بتاريخ 18 مارس 2020م، بتخفيض حضور موظفي القطاع الخاص لمقرات عملهم والاكتفاء بنسبة 40% من الموظفين، وتطبيق منع الحضور إلى مقرات العمل للجهات الحكومية، وبتاريخ 23 مارس 2020م صدر أمر ملكي بحظر التجول الجزئي ليلاً والذي يختلف من مدينة إلى أخرى وبحسب كل منطقة، وعدد من القرارات الأخرى الهامة التي أدت في مجملها إلى انخفاض شديد في الطلب والتشغيل على  عدد من القطاعات في مقابل ارتفاع كبير على قطاعات أخرى مثل سلع المواد الغذائية والدوائية والطبية.

وحيث أن أغلب دول العالم وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية سارعت إلى البدء باتخاذ إجراءات احترازية لمنع تفشي هذه الجائحة، مما قد ينعكس عن تلك الإجراءات الاحترازية بعض الآثار القانونية على بعض الالتزامات الناشئة عن بعض العقود المبرمة. وفي ضوء ما تقدم، يجدر بنا التعريف بالتكييف المناسب للآثار الواقعة على العقود المبرمة من خلال بيان نظرية القوة القاهرة ونظرية الظروف الطارئة وأوجه الاختلاف بينهما وغيرها من الأنظمة والقواعد النظامية لذلك.

التكييف القانوني لأثر الجائحة على التعاقدات

تقوم فكرة نظرية الظروف الطارئة على افتراض إبرام عقد من العقود اللازمة في ظروف معتادة ثم تتغير هذه الظروف التي قام عليها العقد “بصورة لم تكن بالحسبان تجعل تنفيذ هذا العقد مرهقاً لأحد الأطراف ومهدداً له بالخسارة”، فهل يجبر هذا الشخص على تنفيذ هذا الالتزام مهما كانت درجة الخسارة وأياً كانت الظروف، أم أن هذا الالتزام يعدل إلى الحد المقبول بتوزيع الضرر أو بالفسخ، وهذا ما جاءت به هذه النظرية إذ أباحت للقاضي أن يتدخل في مثل هذه الحالات ليعيد الموازنة بين مصلحة الأطراف، بأن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المقبول من خلال توزيع الضرر على المتعاقدين أو بفسخ العقد.

الفرق بين القوة القاهرة والظرف الطارئ

أوجه الاختلاف بين تطبيق نظرية الظروف الطارئة ونظرية القوة القاهرة على العقد

  1. يشترط لتطبيق نظرية القوة القاهرة أن يكون تنفيذ الالتزام مستحيلا استحالة مطلقة، بينما نظرية الظروف الطارئة فيكفي لتطبيقها أن يكون تنفيذ الالتزام مرهقاً ويمكن تنفيذه ولكن بشيء من الضرر والصعوبة بالوصول إلى حد الاستحالة النسبية دون الوصول إلى حد الاستحالة المطلقة.
  2. يلاحظ بأن تطبيق نظرية الظروف الطارئة وقتية وانتقالية، فلا يكون أثره دائما بل قد ينتهي بتعديل العقد أو تأجيله للحد الذي ينتفي معه الضرر اللاحق بأحد اطرافه أو بكل أطرافه بصفه مؤقته ومعلقه بزوال السبب، بينما نظرية القوة القاهرة تتصف عادةً بالديمومة وباستحالة تنفيذ العقد مما يجعل جزاء ذلك هو انقضاء العقد.

اما السؤال؛ هل هذا الجائحة يعتبر قوة قاهرة ام ظرف طارئ، فإنه للإجابة عليه يجب دراسة الواقعة القانونية بشكل مفصل فمثلاً هناك قطاعات لم تتأثر كمحلات المواد الغذائية أو الدوائية على عكس بعض القطاعات التي قل الطلب عليها أو القطاعات الترفيهية أو تنظيم المؤتمرات التي استحال العمل فيها لإلغائها بقرارات حكومية لأسباب صحية.

إن دور المحامي والمستشار القانوني يكمن في تكييف الأثر القانوني وما تسببت به القرارات الحكومية بسبب هذه الجائحة على العلاقات التعاقدية، بحيث يدرس كل واقعة على حدة ويطبق عليها الأنظمة والنظريات والمبادئ القانونية والفقهية والقضائية لإعطاء الرأي القانوني حيالها، وتبقى السلطة التفسيرية والتقديرية للقضاء في التوسع في أحد هذه المبادئ من عدمه، حيث أن للقضاء النظرة الشمولية العادلة لجميع أفراد المجتمع، وتطبيق مبدأ انفاذ العقود قدر الإمكان والقاعدة القانونية لا ضرر ولا ضرار.

الآثار القانونية لوضع انتشار جائحة كورونا COVID-19 على عقود العمل

إن الحديث عن الآثار القانونية لوضع انتشار الجائحة، يعني بدلالته استبصار النتائج ومحاولة استنتاجها استناداً إلى النظام، وبناءً على معطيات واقعية وفعلية ويمكن إثباتها.

فماهي معطيات هذا الوضع؟

  1. انتشار جائحة كورونا يمثل ظرف طارئ لكثير من الأعمال -وفق التعريف الوارد في المقدمة- بالنسبة لعقود العمل. إذ أن العامل قادراً )قدرته متوفرة) على تنفيذ التزامه بالعمل، كما أن صاحب العمل قادر على تنفيذ التزامه بأداء الأجرة، فأصبح العقد ليس مستحيلاً. ويدعم ذلك لأسباب التالية:
  • تعميم وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بتاريخ 18 مارس 2020م، تضمن تعليق الحضور للمقرات الرسمية وتقليص نسبة الحضور إلى 40%، مع تمكين المنشآت الراغبة بالاستثناء بتقديم طلب بذلك.
  • قرار وزير الداخلية بإغلاق المحلات التجارية من الساعة 8 مساءً وحتى الساعة 6 صباحاً.

إن هذه الأسباب لا تتضمن منع كلّي للعمل وممارسة الأنشطة بل قلّصتها من جهة المدة وعدد المسموح لهم بها، وبالتالي لم تجعل تنفيذ عقود العمل مستحيلة على الإطلاق، لكن عقود العمل أصبحت مرهقة لبعض أصحاب العمل، فهو يدفع الأجر نفسه الذي كان يدفعه في الوضع الطبيعي، إلا أنه لا يتحقق له نفس نتائج الوضع الطبيعي، مع الأخذ في الاعتبار أن النشاط التجاري بشكل خاصّ محفوف بطبيعته بالمخاطر والخسائر به متوقعة.

  1. ولكن هذا التكييف ليس على إطلاقه بطبيعة الحال فالسياق والمعطيات الواقعية قد تختلف بشكل كلي أو جزئي حيث يستثنى من الفقرة أعلاه العاملين الذين يمكن لهم ممارسة العمل عن بُعد فعقود العمل في حالتهم لا تخضع لظرف طارئ ولا قوة قاهرة. كما يستثنى من الفقرة رقم (1) أعلاه العاملين في القطاعات التي لم تتأثر اقتصادياً أو مالياً بالوضع الراهن لانتشار جائحة كورونا إذ تمارس أنشطتها التجارية كالمعتاد في الوضع الطبيعي فعقود العمل في حالتهم لا تخضع ظرف طارئ ولا قوة قاهرة.
  2. بالمحصلة لتكييف انتشار جائحة كورونا بكونه ظرف طارئ بالنسبة لعقود العمل ومراعاة ما ورد في الفقرة رقم (2)، فإن العرف القضائي لوجود ظرف طارئ هو جعل العقود قابلة للتعديل وليس للإلغاء أو الإنهاء – تُستثنى بعض الحالات -. هذا التعديل والذي يتم عن طريق القضاء يعني إعادة التوازن لعقود العمل فلا تصبح مرهقةً لطرف على حساب الطرف الآخر، لأن هذا الخلل بسبب ظرف طارئ لا علاقة له بإرادة الطرفين، وهذا النوع من القضايا يتطلب إثبات وجود خسارة فادحة وغير عادية (وهي التي تمثل محل الإرهاق).
  3. إن عقود العمل تُصنف بكونها عقود غير متكافئة الأطراف. أي أن النظام يعتبر العامل هو الطرف الأضعف في هذه العلاقة التعاقدية، وبالتالي فقد جاءت أحكام نظام العمل المعدل بالمرسوم الملكي رقم (م/46) وتاريخ 05/06/1439هـ صارمة في وضع ضمان للعامل متمثل في الحصول على موافقته الكتابية قبل المضي في إجراءات معينة تؤثر في حقوقه أو مركزه القانوني.
  4. أن عقود العمل من العقود متراخية التنفيذ، أي التي يمتد تنفيذها مدة من الزمن. وهذا الوصف لعقود العمل هو ما يجعل خيار تعديل عقد العمل عن طريق القضاء أكثر ملاءمة وإنصاف لكلا الطرفين، لئلا يُتخذ الظرف الطارئ – على الإطلاق – ذريعة للخروج من العقود وإنهاء الالتزامات.

ما هي الحلول؟

أمام هذه المعطيات فإن أول الحلول هي دعوة لطرفي عقد العمل لتبني فلسفة خطط الطوارئ والتي تُوضع لإنقاذ أكبر وأكثر ما يمكن إنقاذه. وهذا يعني اتّحاد جهود الطرفين لاختيار الحل المُنصف الذي يُقلل الخسائر ويزيد المكاسب لهما معاً.

أولاً: إن أحد المقترحات القانونية التي يمكن أن تؤخذ في الاعتبار أن يبدأ صاحب العمل بمبادرة طرح الخيارات الممكنة عن طريق اتخاذ أحد أمرين:

  1. تفعيل العمل عن بُعد لفئة العاملين الممكن لهم ذلك والاستفادة من دليل العمل عن بعد الصادر عن وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، والعمل على إنجاحه من الطرفين.
  2. وضع خطة مبنية على أمرين:

أ- بيانات العاملين لديه الذين لا يمكن لهم العمل عن بُعد وفق الفئات التالية: ( رصيد الإجازة السنوية، الخبرات والمؤهلات) 

ب- قائمة بالأعمال عن بُعد المطلوب إنجازها للفترة الحالية أو للتخفيف من الضغط على فئة العاملين في النقطة رقم (1) أعلاه.  وقائمة بالأعمال التي لا تتضمن مخالطة أعداد كبيرة.

ثم يبادر بطرح الخيارات على فئة العاملين في النقطة رقم (2) بالتوافق مع نتائج هذه الخطة، مثل: الاتفاق على منح الإجازة السنوية لمن لديهم رصيد وفق الفقرة الثانية من المادة التاسعة بعد المئة من نظام العمل، والتكليف بأعمال  أخرى ولو تختلف جوهرياً عن العمل المتعاقد معه لمن يمكن لهم أداء هذه الأعمال ولمدة لا تتجاوز ثلاثون يوماً وفق المادة الستون من نظام العمل، وأخيراً الاتفاق على إجازة دون أجر أو الإيقاف لعقد العمل لمن لا ينطبق عليهم الخيار الأول أو الثاني وفق المادة السادسة عشر بعد المئة من نظام العمل.

ثانياً: صدر قرار وزاري من قبل معالي وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بتاريخ 13/8/1441هـ بإضافة مادة برقم (41) إلى اللائحة التنفيذية لنظام العمل تنص على أنه:

  1. ” في حال اتخذت الدولة وفق ما تراه أو بناء على ما توصي به منظمة دولية مختصة، إجراءات في شأن حالة أو ظرف يستدعي تقليص ساعات العمل، أو تدابير إحترازية تحد من تفاقم تلك الحالة أو ذلك الظرف، مما يشمله وصف القوة القاهرة الوارد في الفقرة (5) من المادة (الرابعة والسبعين) من النظام، فيتفق صاحب العمل ابتداء مع العامل – خلال الستة الأشهر التالية لبدء اتخاذ تلك الإجراءات- على أي مما يأتي:
  2. تخفيض أجر العامل، بما يتناسب مع عدد ساعات العمل الفعلية.
  3. منح العامل إجازة تحتسب من أيام إجازنه السنوية المستحقة.
  4. منح العامل إجازة استثنائية، وفق ما نصت عليه المادة (السادسة عشر بعد المائة) من النظام.
  5. لا يكون إنهاء العمل بعد ذلك مشروعاً إذا ثبت أن صاحب العمل قد انتفع بأي إعانة من الدولة لمواجهة تلك الحالة.
  6. لا يخل ذلك بحق العامل في إنهاء عقد العمل.”

لما سبق يتضح أن الوزارة تدخلت لإعادة تنظيم المراكز القانونية وفقاً للأدوات القانونية المتاحة لها، لوضع آلية معينة قائمة على الاتفاق ابتداءاً بين العامل وصاحب العمل، والتي أتاحت لصاحب العمل ما يلي:

  1. الانتفاع بالإعانة المقدمة من الدولة دون أن يكون له الحق في إنهاء عقد عمل العمال لديه بسبب التدابير الإحترازية.
  2. او الاتفاق بين صاحب العمل والعامل لديه خلال الستة أشهر التالية لبدء التدابير الإحترازية، على أي من الحالات الواردة في المادة وفي حال رفض العامل لتلك الخيارات فإن صاحب العمل بإمكانة إنهاء عقد العامل.
  • نصت المادة العشرون من نظام العمل المعدل بالمرسوم الملكي رقم (م/45) وتاريخ 05/06/1436هـ على أنه: ” لا يجوز لصاحب العمل أو العامل أن يقوم بعمل من شأنه إساءة استعمال أحكام هذا النظام أو القرارات واللوائح الصادرة تنفيذًا لأحكامه. كما لا يجوز لأي منهما القيام بعمل من شأنه الضغط على حرية الآخر أو حرية عمال أو أصحاب عمل آخرين لتحقيق أي مصلحة أو وجهة نظر يتبناها مما يتنافى مع حرية العمل أو اختصاص الجهة المختصة بتسوية الخلافات.” وهذا النص دعوة حقيقية ونظامية تتوافق مع الظرف الطارئ بأن يُحسن كل طرف التجاوب مع الطرف الآخر لتجاوز هذا الظرف الطارئ لما ينفع البلاد والعباد.
  • إن القيادة الحكيمة بقيادة خادم الحرمين الشريفين وولي عهدة الأمين قد استشعرت الآثار الاقتصادية المتوقعة على القطاع الخاص جراء التداعيات الفايروس كورونا وما سينعكس بسببها من آثار اقتصادية واجتماعية كبيرة، ولذا قررت الدولة تحمل جزء من الأعباء المالية دعماً للقطاع الخاص وصدر بذلك أمر ملكي باستثناء العاملين السعوديين في منشآت القطاع الخاص المتأثرة من التداعيات الحالية جراء انتشار فايروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، من المواد الثامنة، والعاشرة، والرابعة عشرة، من نظام التأمين ضد التعطل عن العمل، بحيث يحق لصاحب العمل بدلاً من إنهاء عقد العامل السعودي أن يتقدم للتأمينات الاجتماعية بطلب صرف تعويض شهري للعاملين لديه بنسبة 60% من الأجر المسجل في التأمينات الاجتماعية لمدة ثلاثة أشهر، بحد أقصى تسعة آلاف ريال شهرياً، وبقيمة إجمالية تصل إلى تسعة مليارات ريال.

الالتزامات التعاقدية الخاضعة لنظام المنافسات والمشتريات الحكومية وأثر الجائحة على تطبيقاته

تُمثل الإجراءات الاحترازية لانتشار الفايروس في المملكة العربية السعودية ظرف طارئ لكثير من العقود الإدارية لما نصت عليه المادة الرابعة والسبعون من نظام المنافسات والمشتريات الحكومية من جواز تمديد العقد والاعفاء من الغرامة في عدد من الحالات منها “إذا كان التأخير يعود إلى الجهة الحكومية أو ظروف طارئة” وعرّف النظام هذه الظروف بأنها: “حالة يكون فيها تهديد السلامة العامة أو الأمن العام أو الصحة العامة جدياً وغير متوقع، أو يكون فيها إخلال ينذر بخسائر في الأرواح أو الممتلكات”، وعلى صعيد آخر تم تفسيرالقوة القاهرة من قبل القضاء الإداري في بعض الأحكام المتعلقة بها على أنها حدث ينجم عن ظروف خارجة عن الإرادة وبسبب أجنبي وبشكل مفاجئ يستحيل توقعه ودفعه عند وقوعه كما جاء في الحكم الإداري في القضية رقم (2117/ق/1437هـ)

في حين لم يتناول نظام المنافسات والمشتريات الحكومية أي تنظيمات تتعلق بتفاصيل التعامل مع الأضرار غير المعقولة أو غير المتوقعة والتي قد تنتج عن العقود الخاضعة للنظام. إذ أن النظام أجاز للجهة الحكومية إيقاف العقد في حال وجود ظروف طارئة في حين لم يتناول آثار هذا الإيقاف على المتعاقد مع الجهة الحكومية مما يجعل الأمر في تعديل مسألة الإرهاق وإعادة التوازن للعقد الإداري منوطة بالقضاء.

لا يمكن بطبيعة الحال الجزم أن التكييف أعلاه ينطبق على كافة العقود الإدارية، إذ أن بعض العقود الإدارية لم تتأثر بوجود هذا الجائحة، أو كان التأثير عليها لا يرتب عليها خسائر فادحة، ولكن يكون دور القضاء الإداري في مثل هذه العقود إعادة التوازين بين طرفي العقد.

أثر فايروس كورونا على عقود الإيجار العقارية

تُمثل الإجراءات الاحترازية لانتشار الفايروس في المملكة العربية السعودية ظرف طارئ لكثير من عقود الإيجار العقارية. فهي عقود متراخية التنفيذ أي تمتد زمناً معيناً والإجراءات الاحترازية لم تجعل تنفيذ هذه العقود مستحيلة أبداً، لكنها جعلتها مرهقةً في بعض الأنواع، فاستيفاء المنفعة من العقار قد لا يكون من حيث المدة والآلية والإمكانية كما هو في الوضع الطبيعي، في حين يتم سداد نفس مبلغ الأجرة وهنا يكمن الإرهاق.

في حين أن عقود الإيجار غير المتراخية، أي التي لا يمتد تنفيذها زمناً معيناً مثل تأجير صالة أفراح أصبحت مستحيلة التنفيذ أي أن الإجراءات الاحترازية تُمثّل قوة قاهرة في حالتها فتنفيذ عقد استئجار صالة بتاريخ 20 مارس مثلاً أصبح مستحيلاً بسبب الإجراءات الاحترازية بالمنع التامّ من ذلك.

ومرة أخرى لا يمكن بطبيعة الحال الجزم أن التكييف أعلاه ينطبق على كافة العقود الإيجارية إذ لا بد من القول أن السياق والمعطيات الواقعية قد تختلف بشكل كلي أو جزئي عما ورد أعلاه في بعض العقود الإدارية، اخلافاً قد يُؤثر في صحة التكييف ودقّته.وفي ظل هذه الظروف حالياً، الحل الودي بالاتفاق بين الطرفين، إما بخفض القيمة الإيجارية أو الإعفاء المؤقت، هو أفضل الحلول وأكثرها استدامة، وهذا ما قام به العديد من ملاك العقارات في المملكة العربية السعودية كمبادرة طيبة منهم، فالمسألة اليوم ليست تجارية بل مسألة وطنية وعامة تتطلب تكاتف جميع الجهات والأطراف. مع العلم أن هناك بعض النشاطات والأعمال التي لم تتأثر بالظروف الراهنة، بل على العكس من ذلك، نجد أنها تعمل حالياً بشكل أكبر من المعتاد كمحلات المواد الغذائية. لذا لا يمكن القول هنا بأن المستأجر قد تضرر أو أصبح تنفيذه لالتزامه أصعب وأشق، وعليه تبقى العلاقة التعاقدية كما هي دون تغيير أو تخفيف.

إعادة هيكلة الشركات كأحد الطرق لمعالجة آثار الفايروس

لا شك بان تأثير الجائحة سيكون له تأثير سلبي واضح على الشركات خلال الاشهر القادمة في ظل الإجراءات الاحترازية والصحية المتخذة في المملكة ودول العالم، والتي كان لها تأثير واضح على عدد من الشركات التي كانت الأكثر تضرراً نظرا لمنعها ممارسه نشاطها بشكل جزئي او كلي أولانخفاض الطلب على تلك الأنشطة التي تقدمها هذه الشركات.

على الرغم من التأثير السلبي الذي شكلته هذه الجائحة على الاقتصاد المحلي والعالمي، وصدور حزمة من القرارات الحكومية التي تدعم الاقتصاد المحلي لتخفيف تأثير هذه الازمة، كان للنظام السعودي الاسبقية في وضع عدة حلول تمكن الشركات والمنشآت التجارية للتعامل مع الارتباك المالي او حالات الخسارة الفادحة دون اللجوء لإشهار الافلاس او التصفية والخروج من منظومة الاقتصاد الوطني لمساعدتها على استمرار مزاولة أنشطتها دون الاخلال بحقوق الدائنين او اطراف العلاقات التعاقدية والتي تطرق لها النظام السعودي بصورتين في نظامي الإفلاس الشركات.

إعادة الهيكلة وفق نظام الشركات 

أوجب نظام الشركات على الشركات عند تجاوز خسائرها نصف رأس مالها، اتخاذ عدد من الإجراءات للنظر في استمرار الشركة أو حلها، كما قرر النظام اعتبار الشركة منقضية بقوة النظام إذا أهمل المسؤولون في الشركة أو الشركاء اتخاذ قرار بهذا الشأن أو تعذر إصدار هذا القرار.

كما أجاز نظام الشركات لملاك الشركة تخفيض رأس مال الشركة إذا زاد على حاجتها أو منيت بخسائر لم تبلغ نصف رأس المال، مع حفظ الحق للدائنين بالتقدم بالاعتراض على إجراء التخفيض.

باستقراء نظام الشركات نجد أنه عالج حالة التعثر للشركة أو تعرضها للخسارة وفق حالتين هي:

الحالة الأولى: إذا لم تتجاوز ديون الشركة 50% من رأس مالها.

الحالة الثانية: إذا تجاوزت ديون الشركة 50% من رأس مالها. وفي هذه الحالة أوجب النظام على الشركة تسجيل واقعة الخسارة في السجل التجاري، وكذلك دعوة الملاك لاتخاذ قرار، كما أوجب النظام اتخاذ قرار بأحد أمرين:

  • الأول – حلّ الشركة وتصفيتها. بأحد الخيارات التالية:
    • التصفية الاختيارية، ويشترط لصحة هذا الخيار أن تكون أصول الشركة كافية لسداد كافة ديونها.
    • التصفية وفقاً لنظام الإفلاس التي سيأتي ذكرها، إذا كانت أصول الشركة غير كافية لسداد كافة ديونها.
  • الثاني – الاستمرار في الشركة، والذي قد يكون بأحد الخيارات التالية:
    • إصدارا قرار بتخفيض رأس المال وفق الضوابط المنصوص عليها في نظام الشركات.
    • تغطية خسائر الشركة بأموال الشركاء.
    • الاندماج أو الاستحواذ بغرض تغطية الخسائر وتقليل آثارها على الشركة.

ويترتب على الحالات أعلاه الآثار القانونية التالية:

  • يترتب على اتخاذ قرار بالاستمرار في الشركة وفق الضوابط القانونية وفقا لنظام الإفلاس، استمرار الشركة بمزاولة نشاطها التجاري كالمعتاد ومباشرة كافة التصرفات القانونية بصفتها شخص معنوي.
  • يترتب على اتخاذ قرار بحل الشركة وتصفيتها، إغلاق كافة ملفات الشركة لدى الجهات العامة، وإغلاق كافة الحسابات البنكية، ودعوة الدائنين لتقديم مطالباتهم وسداد ديونهم من أموال الشركة، وانتهاءً بإلغاء السجل التجاري لها.
  • يترتب على اتخاذ قرار بحل الشركة وتصفيتها عن طريق نظام الإفلاس تصفيتها بإشراف ومراقبة المحكمة التجارية وفق الإجراءات المنصوص عليها في نظام الإفلاس.

إن هذه الآثار تُثير سؤال حول مسؤولية الشركاء أو المدراء أو مجلس الإدارة عن ديون الشركة أو التعويض؟

إن سداد ديون الشركة ذات المسؤولية المحدودة أو المساهمة يكون بأموال الشركة فقط، وتعتبر ذمة الشركاء والمساهمين والمدراء أو أعضاء مجلس الإدارة مستقلة عن ذمة الشركة استناداً إلى نظام الشركات والتي يعتبر ذمة الشركة مستقلة عن الذمة المالية للشركاء والمساهمين فيها. وتكون الشركة وحدها مسؤولة عن الديون والالتزامات المترتبة عليها.

وإذا كان هذا هو الأصل فإن نظام الشركات حدد حالات تقوم بها مسؤولية الشركاء أو المدراء أو أعضاء مجلس الإدارة بالتعويض أو السداد لديون الشركة في حالة عدم القيام بمسؤولياتهم الواردة وفقا للنظام.

إن خيار إعادة الهيكلة للشركات التي تواجه خسائر قد تتجاوز 50% من رأس مالها وهو الخيار الذي منحة نظام الشركات السعودي لدعم استمراريتها في منظومة الاقتصاد الوطني، وتأتي إعادة الهيكلة على جانبين رئيسيين عندما ترى الشركة ضرورة إعادة النظر في هياكلها التنظيمية، وأساليب العمل لديها، والإجراءات القائمة لتواكب أهدافها الجديدة التي تقتضيها المستجدات التي طرأت أثناء مسيرتها، وتأتي إعادة الهيكلة على عده صور ومنها:

  • إعادة هيكلة الأصول والمدخولات. 
  • إعادة هيكلة الديون ومن اشكالها: 
    • تحويل الديون القصيرة إلى ديون طويلة الأجل ما يتيح للمنظمة فترة أطول لاستثمار هذه الديون.
    •   وقف سداد أقساط الدين مؤقتا أو إعطاء فترة سماح جديدة ويساعد ذلك في وقف جزء من التدفقات النقدية الخارجية مؤقتا لحين تحسن الأحوال.
    • تخفيض سعر الفائدة أو التنازل عن الفوائد المستحقة.
    • معادلة المديونية بالملكية حيث يتم تحويل كل أو جزء من الديون الحالية إلى مساهمات في رأس مال الشركة عن طريق إصدار أسهم/ حصص ملكية بما يعادل قيمة هذه الديون، وهذا يتوقف على مدى تفهم وتقبل الشركاء في أي منشأة تجارية ودائنيها.
    • زيادة رأس المال عن طريق إصدار أسهم او حصص جديدة لتوفير بعض السيولة وعلى الأخص إذا كانت المنشأة التجارية تستطيع تحقيق أرباح مستقبلا في ضوء توفير السيولة.

التسوية الواقية وإعادة التنظيم المالي وفق نظام الإفلاس 

صدر نظام الإفلاس السعودي بالمرسوم الملكي رقم (م/50) وتاريخ 28 من جمادى الأولى وفق إطار قانوني وإجرائي يعظم قيمة الأصول ويراعي في نفس الوقت حقوق الدائنين وتمكين المستثمرين من تجاوز الصعوبات المالية، على خلاف ما هو شائع لدى الغالب لم يقتصر نظام الإفلاس على تنظيم حالات وإجراءات تصفية أموال المدين إنما مكن النظام المدينين من إعادة التوازن المالي مع الاستمرار في ممارسة انشطتهم.

هدف نظام الإفلاس إلى مساندة الشركات العاملة في السوق السعودي بتعداد أشكالها وطبيعتها القانونية، بما في ذلك أصحاب المهن والمستثمرون الأجانب، وكذلك التجار ورواد الأعمال، في حال تعرضهم لحالة من الإفلاس أو التعثر إلى تمكينهم (كمدينين)، من الاستمرارية في النشاط مع مراعاة حقوق الدائنين وإحداث توازن بين إعادة الهيكلة أو التصفية من خلال عدد من الإجراءات التي تدعم اهداف النظام كالتالي: 

  • إجراء التسوية الوقائية لتيسير توصل المدين إلى اتفاق مع دائنيه على تسوية ديونه ويحتفظ المدين فيه بإدارة نشاطه.
  • إجراء إعادة التنظيم لمالي فيهدف إلى تيسير توصل المدين إلى اتفاق مع دائنيه غلى إعادة التنظيم المالي لنشاطه تحت إشراف أمين إعادة التنظيم المالي.
  • إجراء الإفلاس.

نصت الفقرة الأولى من المادة السابعة من نظام الإفلاس على أنه: (1- مع مراعاة ما ورد في المادة (الرابعة) من النظام، لا يصفى أي شخص بموجب نظام آخر إلا إذا كانت أصوله تكفي لسداد جميع ديونه وكان غير متعثر.)

وهذا النص يدل أن الخيارات القانونية المطروحة بنظام الإفلاس موجهة للشركة التي لا تكفي أصولها لسداد كافة ديونها، وسواءً كانت خسائرها قد تجاوزت 50% من رأس مالها أو لم تتجاوز. ونوضح هذه الخيارات وفق الجدول التالي:

يترتب على الخيارات أعلاه الآثار القانونية التالية:

  • يترتب على خياري التسوية الواقية من الإفلاس وإعادة التنظيم المالي استمرار الشركة بمزاولة نشاطها التجاري بغرض تسديد الديون وفق المقترح الذي تقدمه وتوافق عليه المحكمة التجارية وفقاً للإجراءات المنصوص عليها في نظام الإفلاس.
  • يترتب على خيار تصفية الشركة، عدم استمرار الشركة بمزاولة نشاطها التجاري والبدء بإغلاق كافة ملفات الشركة لدى الجهات العامة، وإغلاق كافة الحسابات البنكية، ودعوة الدائنين لتقديم مطالباتهم وسداد ديونهم من أموال الشركة، وانتهاءً بإلغاء السجل التجاري لها.
  • يترتب على أي من الخيارات أعلاه مسؤولية الشركة وحدها عن ديون الشركة كأصل عام باستثناء الحالات السابق الإشارة إليها في هذه المذكرة.
  • يترتب على خيار الإفلاس أن من صلاحيات أمين الإفلاس المعين مراجعة جميع تصرفات الشركاء ومجلس الإدارة خلال فترة الريبة التي تسبق إجراء الإفلاس، وإمكانية مساءلة الشركاء ومجلس الإدارة عن هذه التصرفات.

الخاتمة:

إن الاتفاق على تقاسم الخسائر والأضرار في هذه المرحلة الحرجة، هو اخف الاضرار واسلمها لدوام العلاقة واستقرار التعاملات بين الأشخاص، ومما يؤخذ في الإعتبار ويخفف من وطأة الأثر الاقتصادي بسبب الجائحة، وهو ما قامت بدعمه القيادة الحكيمة في المملكة العربية السعودية أيدها الله من توجيه الجهات الحكومية المختصة بحزمة من التدابير الاقتصادية الضخمة بقيمة (120) مليار ريال سعودي، ولحق ذلك تدابير اقتصادية وتشغيلية من عدة جهات على رأسها وزارة العدل ومؤسسة النقد العربي السعودي والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية ووزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، والتي تستهدف القطاعات المتضررة بسبب هذه الجائحة، الأمر الذي يؤكد أن الدولة أيدها الله لا تألوا جهداً في دعم كافة القطاعات والمنشآت التجارية لتخفيف الآثار الاقتصادية التي قد تلحق بالاقتصاد السعودي جراء الجائحة، وأن تعاون التجار والعاملين وغيرهم له الأثر الإيجابي في انتعاش الاقتصاد بشكل أسرع باذن الله ويحقق التكاتف المنشود بين الدولة وكافة أطياف المجتمع. 

حمانا الله واياكم من كل مكروه.